الاثنين، 30 مايو 2011

تأصيل العلوم الاجتماعية


تـأصيل العلوم الإجتماعية





د. حسن علي الساعوري 






أصبحت قضية تأصيل العلوم الاجتماعية من القضايا الأساسية في العالمين العربي والإسلامي فبعد ما يقارب نصف القرن من الزمان أدرك الناس أن ركب الحضارة لا يمكن أن يدرك بتقليد الغرب في التصور، في هذه الورقة تشير إلى كيفية الخروج من أزمة التقليد هذه.


إن الخروج من أزمة التقليد لا يكون إلا بالعودة إلى الجذور... أعني بذلك ربط العلوم الاجتماعية بالبيئة، أي الثقافة القومية. وقد جاء تناولنا لهذه القضية عبر أربع مراحل. الأولى تعريف العودة إلى الجذور وربط ذلك بأصالة المجتمع، والثانية تحديد المؤشرات العامة لثقافة المجتمع في ما أسميناه وضوح الرؤية، والثالثة بيان المنهجية الواجب اتباعها في التأصيل، وأخيراً محاولة تطبيق وضوح الرؤية ووضوح المنهجية في مجال العلوم الاجتماعية سواء أكان ذلك في مناهج التدريس في الجامعات أم في مراكز الأبحاث العلمية.



الأصالة:


الأصالة في اللغة تعني فيما تعني الثبات وجودة الرأي، وهي كذلك القاعدة والأساس المتين الذي يقوم عليه الشيء (1) فالأصالة كل ما خالف الفروع وهو الذي تعتمد عليه هذه الفروع في النشأة والوجود والاستمرارية، فإذا غاب الأصل أو انعدم بالضرورة ينعدم كل ما تفرع منه أو ما أسس عليه، كيف لا وقد قيل إن الأصل تتبعه الفروع. أما في علم الاجتماع السياسي فالأصالة تتعلق بما يرتبط بحياة الناس وبثقافتهم وبأعرافهم وبتقاليدهم... أو بأنماط حياتهم العامة في التصور وفي السلوك وكل ما يرتبط بذلك فهو أصيل وعريق. وكلما كانت المفاهيم وأنماط السلوك والمؤسسات والأشياء انعكاساً لثقافة المجتمع اتصفت بالأصالة.


الأصالة هنا تشكِّل بناءً فكرياً متميزاً في مقابلة التيارات الفكرية للثقافات الأخرى، هذا البناء أو النموذج الفكري يشكِّل دائماً النسق المعياري الذي يصوغ جوانب السلوك الاجتماعي، والتباين الذي يمثله هذا النموذج المتميز هو الذي يعطي باعتباره تراكماً ثقافياً على أساس خاص محدد المعالم. وذلك ما يعرف عند كثير من الكُتَّاب بتراث الأمة، أياً كانت هذه الأمة. والمراد به عادة ( ذلك الميراث المعنوي الذي تركه السلف للخلف، والذي يتعلق بجماعة معينة تشعر بأنه يعنيها ويخصها، حيث يصير بالنسبة لها مدخلاً للفهم بحيث تخضع كل القوالب والأشكال الوافدة إلى واقع جديد يكيفها لأوضاعه وأساليبه في الحياة من منطلق اصطباغها بصبغة وثقافة ذلك المجتمع الذي نقلت إليه مما يجعله يغدو أصيلاً في تعامله مع الأمم الأخرى، حيث أنه لم ينغلق على نفسه ولكن أخذ من غيره لنفسه ومن ثم يكون قد شارك مشاركة واضحة في تطوير ما نقل من أدوات أو أشكال فتكون بذلك كأنها من صنعه لا من صنع غيره فتتصف بصفته وتتسم بسمته لا صفة وسمة القوم الذين نشأت أصلاً في بلادهم.


أما إذا قُدِّر أن تعامل الناس مع الأشكال والأساليب الوافدة من غير تصرف ومن غير اعتبار لاختلاف البيئة الجديدة التي نقلت إليها، فالنتيجة من غير شك، تكون الفشل والفشل المركّب. إن استعارة الأشكال والمؤسسات من غير تصرف يعني أنها نقلت إلي بيئة غريبة عنها، ويعني ذلك أيضاً أن الناس الذين بدأوا يستغلونها هم في الواقع لا يحسنون التعامل معها إذ يستحيل عليهم استيعاب الأساليب والأعراف المتعلقة بها (6). فقد نشأت في مجتمع ذي ثقافة مغايرة، ثم تطورت بمرور الزمن ومن جيل إلى جيل حتى أصبحت جزءاً لا يتجزأ من ذلك المجتمع فهي منه وإليه، ذلك لأن صانعها هو الذي يعرف من غير عناء كيف يتعامل معها وكيف يسخرها لخدمته دون مجازفة أو مخاطرة.. والواقع أن الأشكال والمؤسسات عندما تنقل نقلاً إلى مجتمع آخر فأنه يتعذر معرفة كل أطوارها وكل التجارب التي مرت بها، وبالتالي فلا مناص من أن يعول فيها على أخذ آخر تطور بلغته. ومن ثم يكون من الصعب فهم أساليب الاستغلال والتسخير في البيئة الغريبة. إذن فإن الناس الذين يتعاملون معها لا يكادون يستوعبون أساليبها وأعرافها فتسقط بالتالي في أداء المهمة ويسقطون هو كذلك في بلوغ الغايات التي من أجلها كانت الاستعارة (7). وتصبح النتيجة أنه لا هم استغلوها الاستغلال الأمثل كما هو الحال في بيئتها التي نشأت وتطورت فيها، ولا هم كذلك استوعبوها وكيفوها بما يتناسب وبيئتهم وثقافتهم ثم أخضعوها للمراجعة والتطوير اللذين يكون معهما العطاء الذي تبدو فيه الأصالة.


وعندها يكون الخسران المبين لأن المجتمع المقلد تقليد القرود، إنما يكون قد قفل باب الإبداع والخلق أمام نفسه لينشيء ويطور قوالب وأشكال ومؤسسات بأعراف وأساليب أصيلة تمكنه من بلوغ الغايات فيصبح تقليده، بذلك مسخاً لا يشبه أصله ولا يشبه المجتمعات التي ينقل إليها.


وقد أشار إلى هذه الظاهرة المفكر الجزائري مالك بن نبي، ولا نجد تفسيراً لها أجود مما قدم حيث قال: ( لمشكلات الإنسان طبيعتها الخاصة فهي تختلف اختلافاً كلياً عن مشكلات المادة، بحيث لا يمكن أن تطبق عليها دائماً حلول تستقى براهينها من الخارج...


فجميع أنواع الحلول ذات الصبغة الاجتماعية التي نقتبسها عن بلاد أخرى ثبتت لها فيها صلاحيتها... هي صحيحة في هذه البلاد على وجه التأكيد ولكنها تقتضي عند التطبيق عناصر مكملة لا تأتي معها، ولا يمكن أن تأتي معها. ولا يمكن فصلها عن المحيط الاجتماعي في بلادها، أي لا يمكن فصلها عن الذات وتحديد الهوية، على ضوء الخبرة الماضية، وحيث يمثل أصلاً يجتمع عليه أفراد هذه الجماعة ويشعرون عن طريقه بالانتماء. )(2) تلك هي النظم الاجتماعية والقيم السلوكية التي أصبحت راسخة في تكوين النفس الإنسانية، فانطبعت عليها أعرافه وتقاليده حتى بلغت ( مبلغ الطبيعة الثابتة والصفة الموروثة يمارسها المخلوق بالضرورة والطبع. ) (3) على الرغم من أن اجتماعية البشر مكتسبة وليست غريزية. ولكن حدوثها أو وجودها بشكل منتظم عند جميع أفراد المجتمع يجعلها تبدو وكأنها فطرية لا مكتسبة.


هذا التراث تبالغ المجتمعات عادة في احترامه وتقديسه كما توارثوه أباً عن جد وكابر عن كابر. وهذا بالطبع عنصر محافظة لديمومة المجتمع في شكل أعراف وتقاليد ما دام الأشخاص لا يدومون. فالتراث إذن وسيلة من وسائل حفظ النوع الذي فطر الإنسان عليها، ولذلك قالوا ( من شب على شيء شاب عليه ). ( الإنسان ابن العادة ) (4).


ولذلك معناه أن أصالة أي شعب من الشعوب صفة نابعة من دواخله، صفة يتميز بها عن غيره بل ويعرف بها في كثير من الأحيان. وهذا لا يعني أن تكون حياة الناس جامدة في قوالب لا تتغير بظروف الزمان وظروف المكان ولكن يظل الأصل ثابتاً مهما تغيرت الأشكال والأنماط. والأصل دائماً صبغة تصطبغ بها الأشكال المختلفة في التصورات وأنماط السلوك، فكلما قارب الأصل أو كان انعكاساً له مباشرة كانت درجة أصالته عالية وقمتها هي تلك التي تنبع من صميم ثقافة الشعب العامة مخاضاً وميلاداً.


إذن الأصالة درجات وتنعكس مباشرة على الشكل والمضمون، وبالتالي تكون هي الأصالة المتقدمة والمتفردة والتي تماثلها أو تدانيها أصالة أخرى. فالشكل والمضمون في هذه الحالة نتاج طبيعي لفكر الشعب المعين وجهده، وكلما تغيرت حياته بتغير الظروف تغير الشكل دون المضمون لأنه يظل مرتبطاً بتصورات الناس العامة في الحياة، معتقداتهم وتقاليدهم ومثلهم... الخ.


وقد تتعدد الأشكال والصور، لكن المنطلق واحد. وهو منطلق نابع وصادر عما هو ثابت في ضمير الأمة ووجدانها. هذا ومن المعلوم أن التعدد يأتي فتتطور الأشكال وتتجدد، وبذلك تنشأ الحضارات.


التأصيل:


وهنالك أنواع أخرى من الأصالة أقل درجة من التي سبق الحديث عنها. فإن ضرورات التغيير الملحة عادة ما تفرض على المجتمع التخلي عن كثير مما فيه من أعراف وتقاليد ولكنها لا تفرض إلغاء التراث أو استئصال الثقافة والهوية، وإنما تؤدي الاستجابة بالضرورة إلى ابتداع صيغ توفيقية ملائمة ( فتتحقق الازدواجية التي يتعايش في إطارها القديم والجديد ) (5). وهنا نجد بعض الشعوب تستعير من غيرها الأشكال والصور والمؤسسات لتبلغ بها حاجة من الحاجات المستجدة لديها، ولكنها لا تتعامل معها تعامل القرود، فهي لا تقلد التقليد الأعمى بل تتأثر وتؤثر فيه. وقد تتكيف بها من غير أن تصاب في هويتها أو وجهتها الحضارية. فتظل ثقافة الأمة هي الموجهة لكل مناشط الحياة ولا يمنع ذلك أن تتغير الأدوات والأساليب بها ولكن تظل الدوافع والغايات محكومة بتصورات الحياة الخاصة بهذه الأمة، أو ذلك الشعب روحها. ( هل يمكن أن ندين كل اقتباس؟ لا بل بشرط أن نرد الحل المستعار إلى أصول البلد المستعيرة ) (8).


ورد الحل المستعار إلى أصول البلد المستعيرة يعني فيما يعني أن نهيئ المحيط اللازم لتطبيق ما نتصور من حلول لمشكلاتنا الاجتماعية فنأخذ الوافد من أساليب وأشكال ثم نستوعبه ونصيغه بصبغة قيمنا حتى نجعله مناسباً للبيئة الجديدة التي أستعير إليها.


ولكن المجتمع الذي لم يستطع الابتداع لسبب أو لآخر، فيلجأ إلى الاستعارة مشكلته معقدة ومركبة. فالاستعارة يصعب توطينها ومن ثم تأصيلها بمستوى رفيع من الوعي. وإن محاولة التأصيل هذه تجيء لتجاوز أزمة اجتماعية خطيرة. وهي أزمة حضارية في المقام الأول.


وأساليب هذه الأزمة تكمن في البون الشاسع بين معدل التغيير في المجال الخلقي والسلوكي ومعدل التغيير في البيئة المادية المحيطة بالإنسان. فتطور المجتمع في مجال التصورات، والقيم، والأعراف والتقاليد تطور بطيء جداً. إذ أن الإنسان يبدو وكأنه محافظ بطبعه يخشى الجديد في ما يتصل بالأخلاق والسلوك، لأن الجديد فيه مغامرة الفشل أو يمكن أن يكون تغييراً يهدد وجود واستمرارية كيان المجتمع وبالتالي فإنه لو حدث تغيير في هذا الشأن يكون بطيئاً جداً. أما الجديد في البيئة المادية فهو تغيير في الأدوات والأساليب والأشكال التي تستعمل لتحقيق الأهداف المرجوة في الحياة الاجتماعية كتحسين مستوى وسبل الحياة المعيشية ولما كان تغيير هذه الشئون لا يكتنفه أي نوع من المغامرة الحيوية فسرعان ما يقبله الناس من غير تردد. فيصبح التغيير سريعاً جداً. وهنا تنشأ الأزمة... إنها أزمة الصراع بين معدل التغيير البطيء في الأصول الاجتماعية، ومعدل التغيير السريع في الفروع. ( ولذلك يحدث هذا الاحتكاك والتنازع بين أنماط السلوك التي فرضتها ظروف الحياة في فترة سابقة والأنماط الجديدة التي تفرضها ظروف الحياة الماثلة وبما أن القيم يصعب فصلها عن أشكالها التغييرية يزداد أمر التحول تعقيداً ويختلط الجوهر بالعرض ويبدو التغيير الاجتماعي وكأنه ثورة على كل قيم الماضي ) (9) لا على الأشكال التعبيرية. أي الأدوات والأساليب فقط.


وهنالك حقيقة أخرى تؤدي إلى هذا التقابل السلبي ألا وهي الفارق النوعي بين التطور المادي والتطور النفسي فالتقدم العلمي سيظل صاعداً أبداً لأن فطرة الإنسان تطلب مزيداً من المعرفة ومزيداً من التحسين ولأن كل تحسين يحقق مزيداً من الراحة فإن التطور العلمي يسير في خط واحد على الإطلاق فهو يصعد ويهبط لأن في فطرته استعداداً للهبوط واستعداداً للصعود على السواء إذ النفس الإنسانية تتأثر بالتوجيه إما أن تكون فاجرة، وأما أن تكون تقية ) (10).


في هذا الخلط بين تغير وتغير تكمن الخطورة، ومن ثم لا بد للمجتمع وقياداته بصفة خاصة أن يفرقوا بين ما هو أصل، وما هو فرع لكي لا تكون ثورة التغيير على كل شيء،.. على الصالح والطالح سواء بسواء. وبنفس القدر لا بد المحاولة الجادة لتوطين المناسب من كل ما هو وافد من الفروع وذلك يكون بتكييفه بلون وطعم الأصول من قيم وتصورات... أي تأصيله تأصيلاً يجعله يبدو وكأنه جزء من كل، وعند ذلك نتجاوز الصراع بين قيم أصيلة وأشكال تعبيرية وافدة. هذا هو مستوى الوعي المطلوب وحتى نتحاشى الذوبان في كل ما هو وافد بالتقليد الأعمى. وذلك لا يتم إلا بإعادة النظر في قراءة التراث وتفسيره، ومن ثم تجديده على ضوء هذه القراءة. هذه القراءة الجديدة لأصول المجتمع تقود إلى عملية التمسك والتأكيد على خير ما في الماضي من تراث مع طرح ما لم يعد صالحاً ومواكباً للعصر من أشكال ومؤسسات ومفاهيم. فنعطي القيم الأصيلة الضاربة في جذور المجتمع أشكالاً تعبيرية جديدة تنسجم مع روح العصر. هذه العملية بعينها هي ما نعنيه بالتأصيل والمعاصرة.


إذن فيما سبق نقاشه نستطيع القول بأن الأصالة أو التأصيل نوعان؛ الأول هو الأصالة العريقة التي يكون المجتمع فيها حيوياً منفعلاً بما فيه من قيم وتصورات فيبتدع الأشكال التعبيرية كالمؤسسات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية فتصبح أعرافاً وتقاليد راسخة هي سمة الثقافة القومية السائدة. ثم تستمر عملية الابتداع هذه من جيل إلى جيل فتتطور الأشكال والوسائل مرتقية مع رقي المجتمع في سلمه الحضاري.


أما النوع الثاني فهو الأصالة الأقل درجة من الأول... هو ما أسميناه بالتأصيل. والتأصيل عملية ليس فيها ابتداع، وإنما هي استعارة الأشكال والمؤسسات من مجتمعات أخرى ولكن بتصرّف، فتؤخذ هذه الأشكال الوافدة وتضاف إليها تعديلات لتتكيّف مع الثقافة المحلية. ومن بعد ذلك نضيف إليها تطويراً فيه نكهة التراث المحلي... أي تصبغه بصبغة أصول المجتمع وقيمه، لا بصبغة الذين ابتدعوها وبذلك يصبح المستعار والمنقول أصيلاً لأنه قد ألحق بالأصل ثم نما عليه وصار فرعاً من فروعه بل وأصبح جزءاً لا يتجزأ منه. وبالتالي لا تبدو الأشكال المؤصلة وكأنها غريبة في المخبر أو الجوهر.


ونحن اليوم، وفي نهاية القرن العشرين مواجهون بتحدي التأصيل لا تحدي الأصالة فلم تعد أمتنا تزخر بالحيوية والنماء كما كانت لتبتدع، وإنما هي أمة تحسب بأنها متخلِّفة، ومن ثم تتهددها الأخطار من كل جانب. إذ أخذت تستقبل الكثير من الغرب، وطغى التقليد الأعمى، لا الاستعارة بتصرّف، لكل ما هو آت من حضارة الغرب. ثم جاءت النداءات من هنا وهناك بأن الجري خلف الغرب لن يلحقنا بركب الحضارة، بل ستكون النتيجة أمة ممسوخة لا هي غربية ولا هي شرقية. وإن كان لا بد من الاستعارة فكيف السبيل إلى الاستعارة المأمونة والمثمرة في ذات الوقت. أي أنه ينبغي علينا أن ندخل في عملية واثقة للتأصيل لنربط كل ما هو وافد بما عندنا من قيم وتصورات واعتقاد. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا ما هي هذه القيم والتصورات التي نبني عليها عملية التأصيل هذه والإجابة الصريحة من غير تردد أنها هي قيم وتصورات الإسلام. وفيما يلي بيان ذلك وكيفية التعامل به لتبدأ عملية التأصيل المبتغاة بما أسميته وضوح الرؤية: رؤية الأهداف ورؤية الوسائل.


وضوح الرؤية:


إن للمجتمع الإسلامي صبغة خاصة لم تتغير ولم تتبدل على الرغم من اختلاف ظروف الزمان وظروف المكان.


هذه الصبغة الخاصة هي نتاج لوحدة التصور المنبعث من وحدة الاعتقاد. ونعني بالتصور المنظار الذي يرى به المسلم الأشياء ويميزها؛ ومن ثم يدرك الصواب من الخطأ وبمعنى آخر إن التصور هو عبارة عن انعكاس القيم والمفاهيم في عالم الواقع فتكون سلوكاً وتكون أعرافاً، وتكون تقاليد، وتكون نظم الحياة الاجتماعية. وبهذا التصور أو المعيار الأخلاقي ينفعل المسلم بالأحداث من حوله، فيأخذ ويعطي ولكنه لا يأخذ ما يناقض به القيم العليا الراسخة في كيانه والمكونة لشخصيته وهويته إذاً ما هي هذه المكونات الشخصية التي نهيئها للتفاعل مع كل وافد حتى نحتويه ونكيّفه. تلك هي المفاهيم والقيم التي تكوِّن تصور كل مسلم. فكلما غرست وروعيت حتى استوى عودها، رسخت تصورات ورؤى تكون هي الدليل وصمام الأمان الذي يضمن التفاعل المثمر والبناء مع كل وافد في شتى الأشكال التعبيرية لما يعتمل في نفوس البشر. وكلما ضعفت هذه القيم والمفاهيم في شخصية الإنسان، جاءت تصوراته ضعيفة تجعل صاحبها ينجرف في اتجاه أي تيار وافد بغير ما هدى أو بصيرة. هذه القيم العليا والمفاهيم تتمثل في الربانية، التوحيد، الثبات، الشمول، التوازن، والايجابية والواقعية (11). وسنحاول أن نشرح هذه الخصائص واحدة تلو الأخرى.


الركن الركين لخصائص التصور الإسلامي هو الربانية ومنها تنبثق بقية التصورات. والربانية تعني الاعتراف بأن هناك منهجاً قويماً لحياة البشر جاء به من عند الله ولا مجال للاعتماد على الفكر البشري المحدود الذي لا يستطيع حسم كثير من الأمور مثل كنه الذات الإلهية، والمشيئة الإلهية، وكشف الغيب وقيام الساعة. فهذه مجالات نرجع فيها لتلقي التوجيهات من الله عن طريق الرسل. وما دام الإسلام هو الرسالة الوحيدة التي بقيت محفوظة الأصول فكان لزاماً علينا من الوصول لمحاولة تفسير الوجود وعلاقة الإنسان به، ومن ثم علاقة الإنسان بأخيه الإنسان وفيما عدا ذلك فالإنسان مدعو للتدبر والتفكر والتكيف في عالم الواقع.


ومن الربانية تنبثق خاصية الثبات في التصور الإسلامي إذ أن تصور علاقة الإنسان بالكون الذي تلقاه الإنسان من الله تعالى يقتضي وجود حقائق ثابتة لا تتغير مع تغيير الظروف وهو ثابت لا ينفي وجود المرونة والحركة. فهي إذن حركة داخل إطار ثابت أو حركة حول محور ثابت.. فتأتي اجتهادات البشر المختلفة داخل هذا الإطار.


هذه الثوابت تشمل الحقائق الآتية:


• حقيقة وجود الله بكل صفاته وانعكاس التوحيد على سائر جوانب الفكر والعمل.


• حقيقة عبودية الإنسان والأشياء لله.


• حقيقة أن الإيمان بالله شرط لقبول الأعمال وصحتها.


• حقيقة أن الدين عند الله الإسلام.


• حقيقة أن غاية الوجود الإنساني هو عبادة الله.


• حقيقة أن العقيدة هي رابطة المجتمع الإنساني لا العرق ولا الجنس.


• حقيقة أن الدنيا دار ابتلاء وعمل والآخرة دار حساب.


• حقيقة أن الإنسان مستخلف في الأرض وتسخير الكون له.


• حقيقة الإيمان بكمال الوحي وكونه مصدراً للمعرفة كالوجود والعقل وسيلة لهذه المعرفة.


• الإيمان بعموم هذه الحقائق في الزمان والمكان والإنسان.


إن قيمة خاصية الثبات هذه هي تثبيت الأصل الذي يقوم عليه شعور المسلم وتصوره وبذلك تستقر حياته وحياة المجتمع... وذلك مع إطلاق الحرية للنمو الطبيعي في الأفكار والمشاعر، وفي النظم والأوضاع، وبالتالي لا جمود ولا انفلات (12).


والشمول من أهم خصائص التصور الإسلامي المبعوث من الربانية فالمنهج الذي تلقاه البشر من الله تعالى شامل لكل شيء، لم يهتم ببعض الأمور ويهمل الأمور الأخرى، وإنما اشتمل على كل مجالات الحياة. أما إن ترك الأمر للفكر البشري فسيأتي محدوداً محدودية البشر. سيجيء تفكيره جزئياً فإن صلح لزمان لا يصلح لزمان آخر وإن صلح لمكان، لا يصلح لمكان آخر. ومن هنا فإنه ( ما دام الأصل في الحياة هو التوحيد فالأصل والمنهج في الأحكام إن تغطى جوانب الحياة كافة، وتحيط التكاليف بالإنسان حيثما كان، وتتجلى من خلال الصور كلها ) (13).


وتتصل بالشمولية خاصية التوازن، ونعني به عدم الإفراط في جانب مع تجاهل الجوانب الأخرى. ونجد هذا التوازن في وجوه متعددة. هناك توازن بين ما يتلقى الإنسان من الله ليدركه ويسلم به، وبين الجانب الذي يتلقاه ليدركه ويبحث براهينه، ومن ثم محاولة معرفة علله وغاياته ثم يفكر في مقتضياته العملية ويطبقها في الحياة. وهناك ثانياً، توازن بين طلاقة المشيئة الإلهية ) كن فيكون ( وثبات السنة الكونية إذ أن إرادة الله كسنن ونواميس يدركها البشر ليكيفوا حياتهم وفقها، بل يتعاملون مع الكون وفقها، لأن الإنسان ينتفع بثبات هذه السنن في بناء تجاربه العلمية وطرائقه العلمية، وهو في ذات الوقت يستشعر أنه موصول بالله. وذلك هو التوازن في القضية المشهورة بين القضاء والقدر. فقدر الله في الناس يتحقق من خلال إرادتهم وأفعالهم.. ) إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ( (14)


ثم هناك ثالثاً التوازن بين عبودية الإنسان المطلقة لله ومقام الإنسان الكريم في الكون. فقيام العبودية لله هو سبب الرفعة. ) إني جاعل في الأرض خليفة ( ) وسخّر لكم ما في السموات وما في الأرض (.


هناك رابعاً التوازن في علاقة العبد بربه، فالإنسان يخاف الله ويخشاه ثم هو في ذات الوقت يرجو رحمته... وذلك توازن بين الخوف والرجاء.


وأخيراً هنالك توازن بين مصادر المعرفة... توازن بين ما هو غيب وما هو مشهود توازن بين الوحي والنص وبين الكون والحياة من ناحية أخرى.


خاصية التوازن ترتبط ارتباطاً وثيقاً بخاصية أخرى هي إيجابية الإنسان في الحياة. وهذه الإيجابية تتمثل في الإيمان واليقين بأن الإنسان قوة فاعلة ومؤثرة في نفسه وفي الكون من حوله. فإيمان المسلم يعني في المقام الأول اليقين الذي ينعكس في العمل والممارسة. ولهذا دائماً يقرن العمل مع الإيمان في القرآن الكريم.. ) الذين آمنوا وعملوا الصالحات ( ومن ثم تتكون إيجابية المسلم مع نفسه، ومع الآخرين، ومع الكون من حوله، ففي حالة الإيجابية مع الذات يطابق المسلم بين واقع حياته الشخصية وبين التصور الإسلامي هذا. أما إيجابيته مع الآخرين ففي دعوتهم إلى إتباع منهج الله، وبيانه لهم... فهم إخوانه في العقيدة فيحب الخير لهم كما يحبه لنفسه، ثم يتعاون معهم لتحقيق منهج الله في الحياة إذ لا وجود للإسلام دون قيام مجتمع يعيش على هديه. والمؤمن بهذه الإيجابية... والحركة الفاعلة يدرك أنه معان من الله، وذلك لأن الله تعالى يجعل نواميس الكون معاونة له إن هو أخلص التوجه لله. فيسخر الكون له حتى يحقق ما يريد. ) إن تنصروا الله ينصركم (. ومن هنا فإن شعور الإنسان بأنه مكلف بالعمل ومعان عليه، ينفى عنه الشعور بالسلبية، بل يدفعه ذلك إلى أعلى درجات الفاعلية. كيف لا وهم يعلمون ) إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم (.


وأخيراً فإن إيجابية الإنسان تفرز فيه خاصية الواقعية، وهي البعد عن المثاليات، والتعامل مع الحقائق الموضوعية. إذ إن التصور الإسلامي له تصميم للحياة البشرية يحمل طابع الواقعية... أي أنه قابل للتحقيق الواقعي في الحياة الإنسانية حياة الإنسان ذي النوازع والأشواق... يحيا ويموت، يحب ويكره، يؤمن ويكفر. ولهذا يتفكر في نواميس الطبيعة فيدرك قوانينها ومن ثم يسخرها لتسيير حياته الدنيا فيحقق بذلك وعد الله تعالى بالاستخلاف في الأرض. وهنا يكمن السر في وضوح رؤية المسلم في تعامله الواقعي مع الكون، ومع المجتمعات من حوله.


مما تقدم رأينا كيف أن التصور الإسلامي يخلق بالضرورة رؤية واضحة للمسلمين أفراداً وجماعات وتعينهم على أداء رسالتهم في الحياة. هذا التصور ما ينبغي أن تكون عليه علاقة الإنسان بربه، وعلاقة الإنسان بالكون، وعلاقة الإنسان بأخيه الإنسان.... هذه الرؤية أبانت أن هنالك حقائق ثابتة هي معالم الطريق، معالم تؤمن الإنسان من التيه والتخبط. فيتحرك بحرية كاملة في إطار هذه الثوابت وهي ثوابت شملت كل جوانب الحياة الإنسانية ومن ثم لا خوف عليه من الضلال في جانب من هذه الجوانب.


يتطابق إيمان الفرد مع عمله، وإيمان الفرد مع إيمان الجماعة، وإيمان الجماعة مع واقعهم. ولا تكتمل هذه الرؤية إلا بالإشارة إلى واقعية الإنسان لا مثاليته فالإنسان لا يتحرك إلا وهو يدرك واقعه فيتفاعل مع هذا الواقع..... ثم يجني ثمار هذا التفاعل.


هذه هي الرؤية الواضحة التي يتسلح بها المسلم في تعامله وتفاعله مع كل ما هو وافد من الخارج. فلا يرفضه، وهو بهذه الرؤية يدرك الصالح من الطالح فيه، ثم يعيد صياغته ليستفيد منه ليحقق دوره في خلافة الله في الأرض.


بيد أن المسلم ليست لديه رؤية واضحة للتفاعل المثمر فحسب، وإنما قد مكّنه الله سبحانه وتعالى من الوصول إلى منهجية واضحة في كيفية التعامل مع الواقع وهي نتيجة تلقائية لطبيعة تصور المسلم للأشياء، ورؤيته الواضحة في هذا الشأن.


وضوح المنهجية:


إن التصور الإسلامي الذي أدى إلى الرؤية الواضحة في تحسس معالم الطريق في حياة البشر ( الحلال بيِّن والحرام بيِّن ) قد أدى أيضاً إلى وجود منهج واضح لكيفية التفاعل مع الأحداث في المجتمع سواء أكانت داخلية أم وافدة من مجتمعات أخرى. هذه المنهجية تتكون من ثلاث شعب: السببية، والقانونية التاريخية، ومنهج البحث الحسي أو التجريبي. (15) فيما يتعلق بالسببية فقد أشار الإسلام إلى قدرة العقل البشري التركيبية أي قدرته على الجمع، والمقارنة، والقياس والتقاط عناصر الشبه، وعزل عناصر الاختلاف، وهي المقدرة على ربط الأسباب والمسببات فتنظر إلى الظواهر والأشياء، ومن ثم القدرة على استخلاص القوانين العامة التي تحكم مثلاً الكون.


هذه الرؤية السببية للظواهر والأشياء قد دعمت بدعوة الله المتكررة في القرآن للإنسان لأن يستعمل حواسه المختلفة للنظر لما حوله لكي يصل إلى منهج تجريبي بحت. فيستكشف ثم يستغل القوانين العامة في عالم الطبيعة... ومن هنا كان أن أعطى الله تعالى الحواس مسئوليتها الكبيرة عن كل خطوة يخطوها الإنسان المسلم في مجال البحث ) ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا ( (16) وبالتالي فإن العلم في القضايا المشاهدة لا بد أن يتأسس على منهج تكون الحواس هي الوسيلة الوحيدة إلى بلوغه. وذلك منهج كان سبباً أساسياً في النهضة الأوروبية وحضارتها التي طغت على جميع ثقافات العالم اليوم.


وأخيراً فإن المنهجية الواضحة هذه لا تعتمد على إعمال العقل المسلم برؤيته السببية للظواهر واستعماله البحث الحسي في عالم المحسوسات فحسب، وإنما أشار إشارات واضحة إلى وجوب استعمال القانونية التاريخية، فيقرر أن التاريخ البشري لا يتحرك في فوضى بل تحكمه سنن ونواميس كتلك التي تحكم الكون. فالقرآن يقدم هنا أصول منهج متكامل في التعامل مع التاريخ ثم الانتقال من مرحلة العرض والتجميع إلى محاولة استخلاص القوانين التي تحكم الظواهر الاجتماعية. وهذا يتمثل في قصص الأنبياء وتاريخ الأمم السابقة... ) فهل ينظرون إلا سنة الأولين فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا ( (17) إذن فالتاريخ لا يكتسب أهمية إلا بأن يتخذ ميداناً للدراسات والاختبار، نستخلص منها القيم والقواعد الاجتماعية التي تدلنا على الصراط المستقيم. ومن ثم فيكون ذلك منهجاً حركياً للجامعة المؤمنة لتتحاشى مواقع الخطأ التي قادت البشر سابقاً إلى الدمار.


إذن فإن المنهجية الواضحة التي يفترض أن تقدر حق قدرها في حياة المسلم هي استعمال القدرة التركيبية للعقل البشري لاكتشاف العلة والسبب في مجال علوم الطبيعة من ناحية وفي مجال الاجتماع والتاريخ من ناحية أخرى.الأولى تنادي باستعمال الحواس التي تؤدي إلى العلم الحسي والتجريبي، والثانية اعتبار أحداث التاريخ البشري معملاً اجتماعياً يفرز قوانين تاريخية اجتماعية يمكن الاعتماد عليها. والحقيقة أن في هذه الظواهر التاريخية دفعاً حركياً يفرض على الجماعة تجاوز أخطاء الآخرين.


السلف والتحدي الحضاري:


ما يعنينا في قضية التأصيل هو القانونية التاريخية المرتبطة بالظواهر الاجتماعية لأن المنهجية هنا تقول ليس كل ما يفعله السابقون صحيحاً وأن مسببات هلاك قوم يمكن أن تهلك قوماً آخرين لو لم يعتبروا بأسباب الهلاك هذه فالقانونية التاريخية ماضية في كل زمان ومكان. وبالتالي ليس بالضرورة أن نسير في ركابهم ولكن علينا أن نميِّز بين الصالح والطالح ما دام أن تصور المسلم للأشياء والأفعال واضح. ومن هنا فإننا لو تحاشينا أخطاء السابقين بهذه المنهجية الواضحة، فأنه من باب أولى أن نعرف كيف نتعامل مع المعاصرين... بالطبع لا يجوز أن نقلدهم تقليداً أعمى، وما ينبغي لنا ذلك ونحن نملك الرؤية والبصيرة مع المنهجية السليمة، والإسلام ( يواجه الواقع دائماً، ولكن لا يخضع له، بل ليخضعه لتصوراته هو، ومنهجه هو وأحكامه هو، وليستبقي منه ماهو فطري وضروري من النمو الطبيعي، وليجتث منه ما هو طفيلي وما هو فضولي، وما هو مفسد... لو كان حجمه ما كان ) (18) بهذه العقلية ذات الرؤية التصورية الواضحة مع المنهجية الاجتماعية فما كان التحول الحضاري بالتقليد، وإنما بالتأصيل، وقد جاء ذلك على شاكلتين: الأولى هي احترام التراث البشري في عملية انتقاء حضاري، والثانية هي الإبداع والانتشار. لم يكن عقل المسلمين ( يرفض معطيات غيره ولكنه في الوقت نفسه لم يكن يتقبلها بالكلية... لقد كان يملك في تركيبه الخاص، ومن خلال منظوره العقدي، المقاييس الدقيقة والموازين العادلة التي يمرر من خلالها تلك المعطيات فيعرف جيداً ما يأخذ ويعرف جيداً ما يدع ) (19) كانت تلك الحضارات العالمية وتراث مختلف الشعوب ميداناً فسيحاً مفتوحاً انفعل وتفاعل به المسلمون، فكان الأخذ وكان الرفض وكان العطاء وكان أخيراً الانتقاء الحضاري إذ إن الناس لم يقفوا عند حد الاقتباس وإنما ( الإضافة والتجديد والإغناء وإعادة التركيب لمعطيات حضارية كانت بأمسَّ الحاجة للتغيير والتبديل وتوسيع نطاق البناء ) (20)، ومن ثم كانت النتيجة إبداعاً وحضارة جديدة سادت عهوداً يشهد لها التاريخ قبل أي جهة أخرى. بل كانت حضارة هي سبب النهضة الأوروبية وحضارتها المعاصرة. (21)


هكذا تحدث التاريخ عن تفاعل المسلمين أسلافنا بالحضارات من حولهم، وكان منطلقهم التصور العقدي الذي انعكس في وضوح الرؤية وتحديد معالم الطريق، وكان منطلقهم أيضاً المنهجية القائمة على السببية والقانونية التاريخية.... كل ذلك كان حصانة لهم في تفاعلهم مع الأحداث والأشياء من حولهم، وقد تركوا لنا الدروس والعِبر في كيفية مواجهة الواقع... وكيفية التعامل مع ما وجد من تراث.... فكانت مواقفهم عبراً ماضية في الاقتباس لا التقليد الممسوخ... وكانت عبراً لكل معتبر في أن الاستعارة من الغير هي استعارة انتقاء لا محاكاة... ثم هي الانتقاء الذي يكون بعده الإبداع. فإن أردنا أن نكون مثلهم كي نستطيع مواجهة الحضارة الغربية المعاصرة فلنتسلّح بسلاحهم... وهو سلاح النفس لا سلاح المادة لأن منهجية المسلم في التغيير هي ).. حتى يغيروا ما بأنفسهم ( فليعودوا للتصور العقدي السليم، وليتحركوا بمنهجية القرآن السببية والقانونية التاريخية ) عندها سيجدون أنفسهم في أعلى درجات الاستعداد للتعامل مع الواقع لا تقليداً بل انتقاء وإبداعاً.


العلوم الاجتماعية بين الأصالة والتأصيل:


في الصفحات السابقة تحدثنا عن ماهية الأصالة والتأصيل بصفة عامة، ثم أبنا خطورة عدم الاهتمام بالتأصيل في مواجهة الحضارة الغربية الماثلة اليوم، ومن بعد ذلك أوضحنا الأسس التي يقوم عليها التأصيل، وهي الرؤية الواضحة في تصور المسلم العقدي والمنهجية القائمة على نداءات القرآن الكريم بأن هنالك قوانين اجتماعية مثلما هناك قوانين طبيعية تمثلت في السببية والقانونية التاريخية. ثم أشرنا إلى أن أسلافنا لم ينجحوا في ريادة التاريخ إلا بعد أن اتصفوا بهذه الصفات، وكانت النتيجة تأصيلاً رائداً أنتج حضارة مشهودة. ونحن هنا نريد أن ننتقل إلى جانب من الجوانب التي يكون التأصيل فيها ضرورياً. ذلك هو مجال العلوم الاجتماعية: الاقتصاد، والإدارة، والعلوم السياسية، والتربية، وعلم النفس والتاريخ، والجغرافيا، واللغات... الخ. جميع هذه المواد مرتبطة بالفكر الغربي في النشأة، وفي المناهج التفصيلية، وفي الأهداف سواء أكان ذلك في الجامعات أم المعاهد، أم مراكز البحوث العلمية، هذه التصنيفات العلمية، بصورتها الحالية، نشأت لتخدم وتعالج مشاكل مجتمعات مغايرة لمجتمعنا، وبالتالي فهي دراسات رهينة ببيئتها. كان ينبغي لنا أن نوطِّن هذه المواد فنوجهها لتهتم بمشاكل مجتمعاتنا فتقوم فيها الدراسات والنظريات، بدلاً من أن نعيش منهجنا عالة على أهل الغرب. وقد نسينا أو تناسينا أن حضارة الغرب ما قامت إلا بعد أن تتلمذت على يد المسلمين في جامعاتهم في الأندلس وغيرها من البلاد الإسلامية.(22)


إذن المطلوب هو تأصيل هذه العلوم الاجتماعية لتكون في المقام الأول علوم مسلمين.. علوماً تعنى بشئون مجتمع المسلمين، فتكون علوماً تبحث في الظواهر الاجتماعية في البيئة المسلمة، لأنها أساساً لم تنشأ لتتناول كمعارف نظرية بحتة، ولكنها نشأت لتتناول المشاكل التي تدور في المجتمع. ومن ثم لا تكون هذه العلوم غريبة على من يتعاطاها. فيسهل استيعابها، وبالتالي يتيسر على المهتمين بها المشاركة الفاعلة في إثرائها وبالضرورة يلعب هذه الإثراء دوراً. لكي تكون علوماً تتناول قضايا، فتقترح الحلول سواء أكانت حلولاً مبتكرة أم حلولاً تجوَّزت فيها السلبيات.


والسؤال الذي يحتاج إلى إجابة شافية هو كيف يتم هذا التأصيل في مجال العلوم الاجتماعية؟


والإجابة هنا تقتضي في المقام الأول معرفة إن كان لهذه العلوم الاجتماعية صلة تربطها بالأصل والأصل عندنا كما ذكر آنفاً هو القيم الاجتماعية والثقافية العامة السائدة في المجتمع... تلك هي قيم الإسلام وأعرافه وتقاليده. ولما كانت هذه العلوم تتعلق بكل النشاطات الإنسانية خارج نطاق علوم الطبيعة (الفيزياء، والأحياء، والكيمياء) فهي بالتالي علوم في صميم علاقات البشر مع بعضهم البعض بشتى أصناف وأنواع هذه العلاقات عبر الزمان وعبر المكان: من ذلك الارتباط بعنصر الدين والقيم والسلوك والأعراف العامة أو باختصار التراث، ومن ذلك النشاط الاقتصادي، ومن ذلك القوانين العامة والخاصة، ومن ذلك السلطة وآثارها ماضياً وحاضراً، ومن ذلك تطور الثقافة وانتقالها من جيل إلى جيل. وبعد ذلك الكثير الكثير المتعلق بالبشر وأنماط حياتهم وكل ذلك من غير شك، جزء لا يتجزأ من رسالة الإنسان في الحياة وهي خلافة الله في الأرض ) وإذ قال ربك للملائكة أني جاعل في الأرض خليفة ( (23) إذن فإن علاقة هذه العلوم بالأصل الذي أشرنا إليه هي علاقة أصيلة، وذلك لأن كل هذه العلوم تدخل في مهمة الإنسان في الأرض. فهي، بالتالي على ثقة وثيقة بالأصل والكون كله مسخَّر من الله تعالى يؤدي الإنسان مسؤولية الخلافة وهي مسؤولية حفظ نظام العالم واستدامة صلاحه، وذلك بدوره لا يتم إلا ( بإصلاح حال الإنسان نفسه بحسبانه المهيمن على ذلك العالم من جهة الخلافة.. لأن صلاحه يعني تعلّقه بأسباب الخير والسعي الجاد في الحياة، والبعد عن الضرر والفساد. ) (24) وهذه المعاني تتردد في القرآن كثيراً ) إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله ( (25)، ) إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي (، ) أخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين ( (27). ومن هنا فإن صلاح الإنسان لا يتم إلا بترسيخ المصلحة ودرء المفسدة.


وقد أجمع فقهاء المسلمين على أن جلب المصالح ودرء المفاسد كانت هي المقاصد العليا للتشريع الإسلامي. وهذه المصالح لخصت في أصول خمسة تجب حمايتها والمحافظة عليها ورعايتها حق رعاية: تلك هي الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال وكل ما يشمل هذه الأصول الخمسة، وكل ما ساعد في رعايتها وتنميتها فهو مصلحة وكل ما فوتها فهو مفسدة ودفعها مصلحة (28).


تتعلق الأصول الخمسة المشار إليها بالآتي: علاقة الإنسان بالكون، وعلاقة الإنسان بالخالق وعلاقته بأخيه الإنسان بكل ما يحيط بالإنسان من جوانب الحياة السلطة.. الخ. والبعد الثاني هو الجوانب المتغيِّرة والمتطوِّرة في تاريخ المجتمعات الإسلامية. وهذا هو الجانب الذي يتعامل مع الخبرة الإنسانية حركة وتطوراً... وذلك التفاعل مع مشكلات الوجود الاجتماعي وظواهره، وكيف أن هذا التطور مرتبط مع الأصول الثابتة قوة وضعفاً، وبعداً وقرباً. (29)


ولم تكن هذه الثورة العلمية في مجال العلوم الاجتماعية من غير منهجية، وذلك لأن التصور الإسلامي للأشياء كان هو الحادي والدليل في كل شيء فتوصل العلماء إلى المعايير وطرق بحث وتحليل كانت هي سلاحهم في كل العلم الذي توصلوا إليه. في الفقه مثلاً انبثقت هذه المنهجية من المصالح الأصولية الخمس التي تقوم عليها حياة البشر، ومنها جاءت كل الدراسات في شتى مجالات العلوم الاجتماعية التي سبقت الإشارة إليها وقد رؤي أن تكون هذه المصالح على ثلاث مراتب: مصالح ضرورية، ومصالح حاجية، مصالح تحسينية. المصالح الضرورية هي كل ما يحفظ الكليات الخمس المعروفة وهي بالتالي في أعلى المراتب، وتليها مباشرة المصالح الحاجية التي لا ضرورة فيها، ولكن فيها حاجة ثم تجيء بعد ذلك أدنى المراتب، وهي المصالح التحسينية. وهي ضرب من المصالح المتعلقة بمحاولة تحسين ظروف الحياة حتى لا تكون مستقبحة. في النظر إلى كل ما جد من أمور في حياة الناس فيما لم يرد فيه نص من القرآن أو السنة يقوم العالم بوضع موازنة بين هذه المراتب الثلاث من المصالح بعد أن يقدم جلب المصلحة على المفسدة ولا تقدم المفسدة إلا لو كانت أعظم من المصلحة.


والمصالح مرتبة كذلك حسب ترتيبها الذي جاءت به الضرورات الخمس: الدين فالنفس، فالعقل، فالنسل، فالمال. فلو تعارضت مصلحة الدين مع مصلحة أخرى تقدم عليها وهكذا. وتقدم المصلحة الضرورية على الحاجية، وتقدم الحاجية على التحسينية وهكذا. وأخيراً تقدم المصلحة الكلية على الجزئية، أو العامة على الخاصة. وتقدم المصالح القطعية على الظنية الاجتهادية.


مما سبق ذكره ندرك أن القضية ليست قضية تأصيل فحسب، بل هي قضية أصالة لأن العلوم الاجتماعية عندنا أصيلة، ولم تبعد من دائرة الضوء إلا بعد أن سيطر الاستعمار الأوروبي على مجتمعاتنا ردحاً من الزمن، ومن ثم نشأت أجيال جديدة متأثرة بثقافة الغرب، وذلك بسريان قانون الغلبة الاجتماعي: من طبع البشر تقليد القوة المسيطرة.(30)


وكان الذي كان، فنشأت هذه الأجيال في القرن العشرين وسارت في ركاب الغرب ظانة أن العلوم الاجتماعية جاءت من هناك وبالتالي نقلت بحذافيرها من غير أي تصرف وبعد منتصف القرن العشرين، ولما اكتشف بعض المفكرين الوطنيين أن تقليد الغرب في كل شيء فيه مسخ وهدم لشخصية المسلم، بدأ الحديث عن ضرورة التأصيل أي عن ضرورة التأصيل أي عن ضرورة ربط هذه العلوم الاجتماعية بالبيئة الثقافية لمجتمعاتنا. وقد توصلنا في هذه الدراسة إلى أن القضية ليست ربط هذه العلوم بالبيئة المحلية، وإنما هي بعث للتراث العلمي كله في هذه المجتمعات، ومن بعد يبعث هذا التراث ويعرف معرفة تامة تأتي مرحلة التأصيل. أي التفاعل الأصيل مع ما جاء من الغرب في مجال العلوم الاجتماعية.


والمعرفة التامة للتراث تقتضي التمكن من أصول الإسلام الأساسية: القرآن الكريم والسنة النبوية فلا بد من الإحاطة بسائر النصوص المتعلقة بالعلوم الاجتماعية ومن ثم التمكن من التراث نفسه، وذلك بغربلته واستخلاص الصحيح المفيد من عيونه وما يحتويه من الفكر الذي صدر عن روح الإسلام وغاياته فتحدد المختارات التراثية في كل مجالات العلوم الاجتماعية، ثم تحلل تحليلاً يمكن الناس ( من إدراك وفهم الرؤية إلى مناهج قويمة قادرة تنعكس في الأفعال، وفي السلوك مكنتهم من حل ما واجههم من قضايا وصعوبات حياتية ). (31)


وعندما يتم التمكن من التراث تأتي مرحلة التأصيل... بمعنى الانتقال من الأصالة إلى التأصيل. وذلك لا يكون ميسراً إلا بإتقان العلوم الحديثة أولاً. وإتقان العلوم يكون في القضايا والمناهج. فيعرف الباحث غايات هذه العلوم، وظروف نشأتها وتطورها ونموها التاريخي. ومن ثم معرفة أوجه النقد الموجّه لهذه العلوم في إطارها الغربي. وأخيراً محاولة تقويمها وفقاً للتصور الإسلامي.... فيعرف الصالح منها ليبقى وتسلط عليها الأضواء ومحاولة الاستفادة منه. وكذلك يعرف الطالح منها فيكشف ثم يبعد من دائرة الاهتمام لا يتجاهله، ولكن بمعرفته وتجاوزه عن علم لا عن جهالة.


ومرحلة التأصيل لا بد أن تعقبها مرحلة انطلاق وإبداع بالوصول إلى مناهج أصيلة نابعة من مشكلاتنا وحاجاتنا، وموجهة المنظور الأصيل، أي التصور الإسلامي للأشياء. ومن هنا تبرز الحاجة إلى وجود ثلاثة شروط، وهي الباحث المؤهل، واعتبار التاريخ معملاً لإجراء التجارب، واتخاذ المنهجية الأصيلة. (32) الباحث المؤهل المقصود هنا هو المطلوب لإحياء التراث ثم الانطلاق به في سلم الرقي والإبداع. وذلك هو الباحث الذي يملك أدوات التحليل العلمي للظواهر الاجتماعية، فيستطيع دراستها على مستوى الفكر والحركة. فيعرف اجتهادات الفقهاء، وتصورات الفلاسفة وتسجيل المؤرخين. ولا بد أن يكون إتقان اللغة العربية واحدة من أدوات التمكن المشار إليها حتى يستطيع الباحث تفسير النصوص والشواهد لاستخلاص المفاهيم وكيفية التعامل معها مثل الخلاف، والشورى، والقطعية، والظنية.... الخ وأهمية ذلك تكمن في الخوف من التأثير بالألفاظ والمصطلحات الوافدة من الغرب.


ولا بد لهذا الباحث المؤهل من اتخاذ المنهجية الإسلامية الواضحة في دراساته، وهي منهجية توحيدية اشتمالاً واعتدالاً، وهي منهجية قوامها العدل والاستقامة والتوازن بين الأضداد. أما كونها توحيدية وشاملة لأن الحياة في التصور الإسلامي هي منهج موحّد لعبادة الله، وبالتالي لا بد من تغطية جوانب الحياة كافة، ولا بد من الإحاطة بالبشر أجمعين ما كان متصلاً بالعام وما كان متصلاً بالخاص. (33)


هناك الشمول في مدى الأحكام وصورها الذي يضم ضرورة التشريع السلطاني مع ضرورة وجود الفقه الخاص، وضرورة الجمع بين فقه العقيدة وفقه العمل. ثم هناك الشمول في المصادر الوضعية الذي لا يجعل الصفوة تحتكر الاجتهاد وإنما الباب مفتوح لكل مسلم عالم بشيء نوعاً ودرجة أن يكون دوره في الأمور، وهو شمول الجمع بين الأصالة والعالمية.... أي الجمع بين التمسك بالأصول والانفتاح على بقية الثقافات العالمية، ويمكن ربط ذلك بمفهوم ( شرع من قبلنا )، أو مفهوم ( الاستصحاب ).وهناك الشمول في مسالك النظر للأحكام المنطلقة من نظرة توحيدية بين التجرد نحو الحق من جانب وبين التجارب الإنسانية المتعاملة مع الواقع الذي ينتج صوراً وأشكالاً مختلفة من جانب آخر. ويقتضي الشمول هنا الموازنة بين النظام الظاهر والباطن، وبين الإجمالية والفروعية، وبين القطعية والمرانة، وأخيراً هناك الوحدة والتوازن بين النظام والحرية إذ أن سنن الله في الطبيعة تتسق مع سنن الله التكليفية في الشريعة. فتكليف الفرد هو تكليف للجماعة، والإيمان بالوحي لا ينفي دور العقل. فلا بد من الإحاطة بكل المنقول عن الوحي أو عن الرسول صلى الله عليه وسلم أو المأثور عن السلف ثم ما تفاعل مع كل علم معقول سواء جاء ذلك من النظر أو من التجريب. وهذا لا يعني أن الاتباع ينفي الإبداع، والسلف والخلف، والتقليد والاجتهاد. والتوازن المطلوب في المنهجية الإسلامية لا بد أن يضم توازناً بين الالتزام بمذهب فقهي معين وبين الحرية في النظر والاعتبار بما في المذاهب الأخرى حتى لا تكون هنالك عصبية مذهبية تؤدي إلى الجمود العلمي والضمور الحضاري.


ومن بعد التأكد من هذه المؤهلات المطلوبة عند الباحثين تبدأ حركة الإبداع بعد التأصيل فيتخذ التاريخ معملاً للتجارب، فمنه نختار الفرضيات والفروض حتى نتجنب السرد التاريخي البحت، ونتجاوزه إلى دراسة الوجود الاجتماعي والسياسي ومن ثم نتناول القضايا، والمفاهيم والنظم دون الوقوف عند زمان معيَّن أو أحداث بعينها، أو حتى صور وأشكال بعينها.


خاتمة:


وبعد فقد أوضحنا في هذا البحث ما هي الأصالة وما هو التأصيل ثم حاولنا ربط ذلك بثقافة المجتمع العربي والإسلامي، ثم أبنا كيف تكون الأصالة، وكيف يكون التأصيل في هذا المجتمع فكان الحديث عن وضوح الرؤية كمنظور أصيل للأشياء وكان الحديث عن وضوح المنهجية المنطلقة من هذا المنظور، ومن ثم كانت الإشارة إلى آثار ذلك في حياة السلف، وكيف أنهم كانوا رواد حضارة بالأصالة والتأصيل. ومن بعد ذلك عرجنا إلى أهمية هذا الأمر في العلوم الاجتماعية وقضاياها، عندها وجدنا أننا في هذه المجالات نحتاج إلى التمسك بأصالتنا أولاً ثم نحاول التأصيل، وكان أن أوضحنا كيف يتم هذا التأصيل بصفة عامة.


ونحتاج بعد ذلك أن ندخل في المراحل العملية لتأصيل العلوم الاجتماعية واحداً بعد الآخر. ويمكن وضع خطة عامة يمكن تنفيذها في كل علم. هذه الخطة العامة لا بد أن تشتمل على نشأة العلم وأهدافه وطرقه، وقضايا العلم والمشاكل المتعلقة به، وأخيراً علاقة هذا العلم بقيم وثقافة المجتمع. في النشأة تطور التخصص المعني والمؤثرات التصورية والظروف التي جعلت أفكارهم تصبح جزءاً أساسياً من المنهج. ومن ذلك تحدد التصنيفات الجوهرية والقضايا المهمة مع تحديد الأهداف والغايات ثم نوضح المدارس المختلفة التي يضمها العلم، وبيان أوجه الشبه والاختلاف بين هذه المدارس.


وأخيراً ندخل في مرحلة التأصيل: كيف يمكن أن نلائم بين منطلقات ومحتويات هذا العلم وقيم وتراث المجتمع الإسلامي للأشياء؟ وأين يمكن أن نبحث عن هذا التلازم في القرآن أم في السنة أم في كتابات الفقهاء والعلماء؟ وهنا يمكن تقديم بعض الأسئلة كنماذج واضحة للملاءمة الممكنة؛ ومن ثم ينطلق العلماء من هذه الملاءمة إلى بلوغ الغايات المنشودة وهي كتابة مناهج أصيلة في كل مواد العلوم الاجتماعية.


----------


1. راجع معنى لفظ الأصالة في: بطرس البستاني، محيط المحيط: قاموس مطول للغة العربية ص 26.


2. نفين عبد الخالق، ( إشكالية التراث والعلوم السياسية )، مجلة المسلم المعاصر، 43، رمضان 1405ه، ص 71.


3. عون الشريف قاسم، من قضايا البعث الحضاري، ( الخرطوم: الدار السودانية 1971م، ص 13.


4. المرجع السابق، ص 16.


5. قضية التراث أو التأصيل قضية خاض فيها علماء الاجتماع، وعلماء التربية وعلماء السياسة. أنظر مثلاً محمد قطب، التطور والثبات في حياة البشرية ( القاهرة: مكتبة وهبة )، ص 122- 137، و 141- 148.


6. أنظر عبد الغفار رشاد، التقليدية والحداثة في التجربة اليابانية، ( بيروت مؤسسة الأبحاث العربية، 1984م ) ص 29.


7. إن خطورة وعواقب النقل والاستعارة من غير تصرف أشار إليه كثير من المفكرين عند مناقشة أثر الاستعمار الغربي على الشعوب المغلوبة في آسيا وأفريقيا. أنظر تفاصيل ذلك في: مدثر عبد الرحيم، بين الأصالة والتبعية: تجربة الاستعمار وأنماط التحرر الثقافي في البلاد الآسيوية والأفريقية، ( الخرطوم: دار جامعة الخرطوم للنشر، 1978م ) ص 11- 15.


8. مالك بن نبي، ميلاد المجتمع: شبكة العلاقات الاجتماعية ترجمة عبد الصبور شاهين، ( دمشق دار الفكر، 1981م ) ص 96.


9. أنظر عون الشريف قاسم، نفس المرجع السابق لنفس المؤلف ص 37. وقد أشار آخرون للفارق النوعي بين التغيير في القيم والتصورات وبين التغيير في الأدوات والأساليب.


10. أنظر تفاصيل الصراع الذي ينشأ في النفس الإنسانية من جراء عدم التوافق بين التطور النفسي والتطور المادي، ومضافاً إلى ذلك النقاش حول الثابت والمنظور في حياة المسلم: كل ذلك في كتاب: محمد قطب، التطور والثبات في حياة البشرية، ( القاهرة: مكتبة وهبة، 1961م )، ص 75- 174.


11. القيم العليا والمفاهيم هذه سمّاها سيد قطب خصائص التصور الإسلامي، ( القاهرة الطبعة الثانية 1967 ).


12. أنظر المعهد العالمي للفكر الإسلامي، إسلامية المعرفة، ( هير ندن فيرجينيا الولايات المتحدة الأمريكية، 1986م )، ص 78- 117.


13. د. حسن عبد الله الترابي، منهجية الفقه والتشريع الإسلامي، ص10.


14. سورة الرعد، 11...أنظر عماد الدين خليل، التفسير الإسلامي للتاريخ، ( دار العلم للملايين، 1975م ).


15. منهجية الإسلام في كيفية التفاعل المثمر بين المسلم وبيئته بواسطة هذه الشعب الثلاث أفاض فيها بعض دعاة العودة إلى الأصول الثقافية للمجتمعات الإسلامية، أنظر: عماد الدين خليل، حول إعادة تشكيل العقل المسلم ( قطر: كتاب الأمة، الطبعة الثانية، 1983م )، ص48- 61.


16. سورة الإسراء، آية رقم (36).


17. سورة فاطر، آية رقم (43).


18. أنظر سيد قطب، الإسلام ومشكلات الحضارة، ص 189.


19. عماد الدين خليل، إعادة تشكيل العقل المسلم ص65.


20. المرجع السابق، ص76.


21. اهتم عدد كبير من الكتاب والمفكرين بالثورة الحضارية التي حدثت تحت كنف المسلمين وبأيديهم. أنظر: جي. تي غرنباوم ( تحرير )، ترجمة صدقي حمدي، الوحدة والتنوع في الحضارة الإسلامية، ( بغداد: مكتبة دار المتنبي، 1966م ). عباس محمود العقاد، أثر العرب في الحضارة الأوروبية، القاهرة: دار المعارف، 1960م ).


22. العقاد، المرجع السابق.


23. سورة البقرة، آية رقم (30).


24. أنظر خليفة بابكر الحسن، فلسفة مقاصد التشريع في الفقه الإسلامي، ( الخرطوم: دار الفكر، دون تاريخ ) ص11.


25. سورة هود، آية رقم (88).


26. سورة القصص، آية رقم (77).


27. سورة الأعراف، آية رقم (142).


28. راجع تفاصيل ذلك في الشاطبي، الموافقات ( إبراهيم بن موسى محمد اللخمي الشاطبي، طبعة صبيح، وعز الدين بن عبد السلام، قواعد الأحكام في مصالح الأنام، طبعة دار الكتب العلمية، حسين حامد حسان، نظرية المصلحة في الفقه الإسلامي، طبعة دار النهضة العربية.


29. كيفية تحليل التراث والاستفادة منه في تطعيم مناهج العلوم الاجتماعية أشارت إليه نفين عبد الخالق ولكن فقط في مجال العلوم السياسية. ونحن هنا نشير إلى القاسم المشترك بين جميع العلوم الاجتماعية. أنظر نفين عبد الخالق، المرجع السابق لنفس المؤلف: ص 75- 76.


30. قانون الغلبة الاجتماعي من الظواهر الاجتماعية التي حللها المفكر الإسلامي المشهور بابن خلدون. لمزيد من التفاصيل أنظر: بن خلدون المقدمة.


31. المعهد العالمي للفكر الإسلامي، الوجيز في إسلامية المعرفة، ( الطبعة الثالثة 1408ه 1987م )، ص51.


32. أنظر نيفين عبد الخالق، المرجع السابق لنفس المؤلف ص 74- 75.


33. أنظر حسن عبد الله الترابي، المرجع السابق لنفس المؤلف ص10- 22.








* مدير جامعة النيلين

ليست هناك تعليقات: